آراءآراء أدبية

الشعر والمنعطف ..

عند المنعطف الأول في منتصف اللحظة ، يُثار بذهن الفراشة براعةُ قدرتها في تخطّي اليرقة والاتجاه نحو الجناح ، وها هو يمنحها التحكم الدقيق لتحقيق نشوة الانبهار المبهر  بضوءٍ لا يرحم. 

يرتدي الموت ببعض كشوفاته الروحية وتجلياته المادية ، شكل الرغبة العارمة ، وقد أحسن الوثوب كالرئبال لإبراز القانون الحياتي ، إلا أنه ينبغي على المرء الانتباه لخطورة الاختزال ، الذي نقوم به دائمًا حين مشاهدتنا/وعينا بشيء ما خارج ذواتنا ، وهو الأمر الذي يبدأ باللغة ومن ثم بالتواصل وبعد ذلك باحتكار الظاهرة بالعلم التجريبي. 

النهاية ، انعطافٌ ، استدارة أو فلنقل تجاوزٌ أيًا كان نوعه. يقفز المرء من فكرة لأخرى (الفكرة هنا هي ثنائي حسي/عقلي ، واقعي/روحي) وهذا القفز هو (معرفة عُمقيّة) بالإضافة لمعارف متعلقة بالفكرة (معرفة سطحية) ، فأنا حين أقفز من خاطرة لأخرى ، أعي أيضًا قدرتي على القفز (معرفتي بها) مما يشعرني بلذة الوجود ، كما حدث للفراشة التي تلذذت بجناحيها ، وكانا تذكيرا لمرحلة (اليرقة) وصعوبتها ، وهي إذ تقتحم الأهوال (المصباح القاتل) بخدعة (الضوء) إنما كان ذلك من خلال الثقة العالية بالمعرفة (العُمقية) بالذات.
يُشعرنا تطور معرفتنا العمقية دائمًا بالثقة العمياء (أن يعي المرء أنه يستطيع إدارة ذهنه والتحرك من مسألة حسابية لغناء عابر أو ممارسته الانعطاف من ردة فعل لإبداع حُلم) في حين تقوم المعارف السطحية (الأفكار والخواطر) بتشكيكنا في كوننا على ما يرام أو نستطيع ، مما يدفع نحو التأني وتوقع المآلات وهذا ما تفتقده الفراشة. 

ينطلق العالم/الكون من خلال الوعي ، ولا يوجد عالم إلا بوجود هذا الوعي (مركز معالجة البيانات ) الذي يمنح العالم أشكاله وألوانه ، إلا أن الوعي هذا متفاوت الحضور بين الكائنات ، وثمة سؤال كبير ، حول الفراشة مرة أخرى ، لكن من خلال فهمنا للظاهر الذي نعيه ، نحن والفراشة ، ألا تبصرون هذا التوجيه نحو حياة خاصة موائمةٍ لقدرات الوعي ، ماذا لو كان الإنسان بعقل فراشة ؟ 

هل فعلا نحن لا نموت بخديعة الضوء ولذة الانبهار أو حتى لا نواجه هذه المخاطرة؟ 

لماذا تستطيع عقولنا من خلال (محاكاة الشعر هذه المرة)  الكشف عن كوننا أيضًا نرتكب خطأ الفراشة ؟ يُبهرنا موقف أو نداء أو هبّة اجتماعية فنتجه للاحتراق إلا أن الشعر في براءته يقينا تلك النهاية ، ثم ماذا عن الموت وأساليبه عند بقية الكائنات أليست قصصه في الغابة والمروج تحكي كل قصص موتنا نحن بطريقة رمزية؟ ألا نكون الرواية وتلك الكائنات الصغيرة القصص القصيرة؟ هل من الممكن القول أن الشعر هو عودتنا لتلك القصص ؟ رغبتنا بحياة بها قدرات أكبر ، أعني المعرفة العمقية ، دون نهايات مأساوية كتلك التي مسّت الفراشة وأودت بحياتها؟
من خلال مبدأ الوجود الحقيقي (غير الاختزالي) :
(أنا داخل العالم والعالم داخلي) 

نجد ضمنيًا شرحًا مناسبًا لهذه الترابطات القدرية وتشكيل خرائط الموت والحياة ، فقد عرف المرء ذاته عبر شعوره ، والشعور لا يكون مدركا إلا بتغير درجته ونوعه ، فهذا التغير من طمأنينة إلى خوف هو ما يجعلنا نميز بين الاثنين ، وهو ضمنيا يدفعنا للوعي بشعورنا وتدفقنا ، وما يحلو لنا أن نقوله ببقية الحياة ومعانيها لا ينفك عن هذا الأساس ، وهو سر أي إثارة ، وقصيدة وقصة ، وإذا ما أنزلناه لمستوي الشعر خصوصا لأدركنا بأن حياة الشعر بالمنعطف وأما الموت فهو الرتابة واستمرارية المعنى الواحد ، لذلك كانت الانتقالات والمنعطفات تعمل في وعينا بطريقة إدمان القدرة دون انتباهنا لها وأما الشعر فيشي علنيا بها ، فالتحولات التي تحدث في تدفق ودرجة وطريقة وعينا هي ما يمثل شعورا كما أسلفت و على مستوى النص الشعري الذي يأتي مغايرا للحديث اليومي يحمل تركيزا بحشود أكبر من المنعطفات التي تثير بنا الشعرية ، فالنص وأن كان يحمل تغيرات تحدث عبر الانزياح اللفظي/الاستعارة والأسلوب فإنها  بالإضافة إلى ما قاله النقاد وعلى رأسهم تودوروف وكوهين ، تمتلك المنعطف وهو التحول بكثافة المجاز أو الانتقال من شكل شعري لآخر وهكذا وهو في الوعي يتضمن ذلك الانزياح أيضًا لكن يهمنا الآن ما هو مسكوت عنه ، وهنا عدة أمثلة تطبيقية على ذلك نبدأها بالمتنبي إذ يقول :

الحزن يُقلِقُ والتجمّل يردعُ 
والدمعُ بينهما عصيٌّ طيّعُ 
،
يتنازعان دموع عين مسهّدٍ 
هذا يجيء بها وهذا يرجعُ 

يخبرنا المتنبي بمطلع قصيدته في رثاء فاتك المجنون أمير الفيوم عما يجيش في صدره من صراع وحزن ،  ويهمنا بها شرح الشاعرية (بالذات) والشعرية( بالنص) من خلال الانتباه للمنعطفات:

▪️البيتان بقيمة شعرية وشاعربة كبرى نصًا وذاتًا ، لكن هذه القيمة ستضمحل بعد ذلك  وتعود وتظهر ثم تغيب وتضمحل وهكذا ولهذا التفاوت فاعلية شعرية/شاعرية كما سنرى لاحقًا

▪️البيتان يصوران لنا مشهدًا للدمع الذي يظل رهينة الصراع بين الحزن والصبر ، ثم ينزلهما على ذلك الذي جافاه النوم (قصد نفسه ضمنيًا) ، وتشخيص الحزن والصبر كشخصين يقوم أحدهما بالمجيء بالدمع والآخر يرده يجعلنا أمام مشهد مصوّر لحالة الاضطراب وهو يمثل ما يعانيه الشاعر من صراع نفسي بين حقيقتين نفسيتين : أن تكون حزينًا (لفقد صديق كنا سيخبرنا بعد أبيات ) وأن تكون صبورًا لكونك حكيما مؤمنًا (كما سيقول لنا هذا المعنى بعد ذلك بذكر الهرمين وفناء أصحابه) ، وهذا الصراع الموصوف بالنص هو الشعر في عمقه ، وهما أيضًا قد تناوبا على الظهور في النص ، الانفعال والحكمة .. وهذا التحول بين شعورين ومفهومين يمثل الانعطاف والانتباه كما أسلفت بقولي :الشعور لا يكون مدركا إلا بتغير درجته ونوعه ، فهذا التغير من طمأنينة إلى خوف هو ما يجعلنا نميز بين الاثنين ، وهو ضمنيا يدفعنا للوعي بشعورنا وتدفقنا 

▪️إننا نتفق على كون البيتين السابقين بشاعرية وشعرية جيدة لكن (الشعر) الذي هو عاطفة متأججة سرعان ما سيهبط بعد هذين البيتين ليتحول النص إلى “إخبار” و”موعظة” و”وصف حال” وكل هذا هو تهيئة “ذكية” لشرح المطلع والدخول مباشرة بالموضوع: 

النوم بعد أبي شجاع نافرٌ
والليل مُعيٍ والكواكب ظُلّعُ
،
إنّي لأجبن من فراق أحبتي 
وتحس نفسي بالحمام فأشجعُ
،
ويزيدني غضب الأعادي قسوةً
ويلمٌُ بي عتب الصديق فأجزعُ
،
تَصفو الحياةُ لجاهِلٍ أَو غافلٍ
عَمّا مَضى فيها وَما يُتَوَقَّعُ
،
ولمن يُغالطُ في الحقائق نَفسَهُ
وَيَسومُها طَلَبَ المُحالِ فَتَطمَعُ
،
أَينَ الَّذي الهرمان مِن بُنيانِهِ
ما قَومُهُ ما يَومُهُ ما المَصرَعُ؟ 

🔹نلاحظ أن الأبيات السابقة تحكي لنا قصة موت أبي شجاع وتأثر المتنبي لكنها أبيات شاعريتها متعلقة بمعنى “الفقد/الموت” ومعنى “الرثاء/الوفاء” وهي معاني شاعرية مرتبطة بالذات ، لكنها في عالم الشعر (مستوى التصوير والتخييل) منخفضة الشعرية باستثناء (والليل مُعي والكواكب ظُلّعُ) للانزياحات التي تقدمها

 فلا يوجد بها ما يجعلنا في دهشة من خيالات وتمثيل ومشاهد بل هي ميالة للحكمة والوعظ والوصف وهكذا يكون الشعر ظاهريًا بها في حالة غياب أو خمول ، في حين أن مطلع النص كان بقمة شعريته ، وهذا التفاوت في شعرية المطلع ثم انخفاضها بعد ذلك منحنا وعيا بمعيار الشعر وساعدت على استمراره أيضًا ، فالأبيات التي تلت المطلع أكدت الشعر بانخفاضها واتجاهها للوصف المعتاد والحكمة ، فالمطلع خيالي بارع ، وما تلاه واقعي حكيم ، وهذا انعطاف من شكل شعري لآخر ، حقق الانتباه ضمنيا وشدنا نحو الإصغاء . 

🔹علينا اعتبار الكثافة الشعرية بمطلع النص ثم انخفاضها بعد ذلك (الظهور والغياب) من خصائص الشعر العربي التقليدي (الكلاسيكي) خصوصا في القصائد الطويلة وهذا الاتجاه له أنصاره ومحبوه وهو غالبا تقوم شعريته على كسر الأشكال الشعرية : من الخيال للواقع ، من المجاز للمباشرة فيما يقتضيه حال المحكي بالنص وقد ألزم الشاعر بقصيدته العمودية وجوده فيها عبر وقائع المحكي عنه : الرثاء ، ولكون الشعر العمودي يعمل تاريخيا على مبدأ (الإعلام/والأخبار) ثمة شاعرية بأن أسمع قصة سياسية مرتبطة بالمجتمع في قالب الشعر  والمزج بين الأساليب حقق الشعر ومنح شاعرية لهذا التوزيع الذي يديره الشاعر للكثافة الشعرية 

▪️لو تمعنا شعر العرب قديما ومن خلال قالب القصيدة العمودية سنجد هذا الاتجاه متمكنا ، وما يهمنا الان هو إبراز الشعر فيه بناء على الكثافة ، التي يتضح أنها لمعايير اجتماعية أقل من وجودها المعاصر بنصوص الشعر ، فالنص الشعري مثلا بالاتجاه الرومانسي والرمزي مال إلى تكثيف الشعرية فيه وتقليل (الإخبارية/غياب الشعر) مما يتطلب جمهورا خاصًا له وعي شعري أكبر ، لكن تفاوت الكثافة بالنص الواحد والانتقال من مستوى لآخر هو ما يجعلنا أيَا نعي الشعري جيدا ، ويسمح باستمرار اللذة فالسرمدية قاتلة للذة ، والانتباه .

إن ما يمنحنا وعيا هو ما يجعلنا ننتبه ولا يكون ذلك إلا من خلال المثير في التحولات إن كان بالمقادير أو الاتجاه أو غير ذلك ، وهو ذاته ما يشعرنا بحاجة لوجود غيرنا ، فالوحدة لا نألفها وسرعان ما نهرب منها لأنها الضمان الوحيد للثبات لو تمكنت منا وبذلك فهي شكل من أشكال السرمدية التي ليست سوى الثبور ، ولنعي هذا الجانب ستكون قصيدة إيليا أبي ماضي مثالا مشروحا للمنعطف من خلال االتناوب بين نزعتين :المقاومة والمؤازرة في نصه ”يا هند قد أفنى المطال تصبّري ” :

ليت الذي خلق العيون السودا
خلَقَ القلوبَ الخافقاتِ حديدا
،
لولا نواعسها ولولا سحرها 
ما ودّ مالكُ قلبه لو صِيدا
،
عوّذ فؤادك من نبال لحاظها
أو مُت كما شاء الغرام شهيدا
،
إن أنت أبصرتَ الجمال ولم تهِم
كنتَ امرءًا خشن الطباع بليدا

قصيدته هذه كتبها على البحر الكامل ب37 بيتا ، أثارت بعض الآراء الشعرية :

▪️التمني الذي جاء بمطلع القصيدة ، أدخلنا سريعًا في حالته الشعورية ، التي نسجت كلمات البيت السابق، لقد أدركنا أنه كان قبلها تحت تأثير التفكر والتأمل بحدث ما ، فالمرء لا يقول “ليت” إلا بصفتها امتدادًا لتفكير أو حدث عارم يدفعه للتمني ، وهاهي شعرية هذا النص البديع جاءت بدءًا بإقحامنا بتمنّي الشاعر الذي ، جاء مؤسسًا لهوية نصه ، وبإقحامنا هذا كان المنعطف الأول لنا 

▪️تقاسم النص بالبداية إلى المنتصف نزعتان ، نزعة مقاومة ، في قوله :

“عَوِّذْ فؤادكَ من نِبال لحاظها
أو مُت كما شاء الغرام شهيدا “

ونزعة مؤازرة ،
بالبيت الذي يليه:

“إنْ أنت أبصرتَ الجمال ولم تهِمْ
كنتَ امرَءًا خشِنَ الطباعِ ، بليدا “

وأيضًا فسّرا البيتان السابقان البيتين الأولين ، فالبيت الأول “نزعة مقاومة” :

ليت الذي خلق العيون السودا 
خلق القلوب الخافقات حديدا 

والبيت الثاني “نزعة مؤازرة/ تتمثل بالتبرير”

لولا نواعسها ولولا سحرها 
ما ود مالك قلبه لو صِيدا 

▪️ظهرت النزعتان ببقية الأبيات بطرق مختلفة ،

نزعة مقاومة :
يا ويح قلبي إنه في جانبي
وأظنهُ نائي المزار بعيدا

ثم بالبيت الذي يليه ، نزعة مؤازرة (تبرير):


مستوفزٌ شوقًا إلى أحبابه
(المرء يكرهُ أن يعيش وحيدا)

ثم بعد ذلك ،

نزعة مقاومة (على هيئة عتاب ولوم):

برأ الإلهُ له الضلوع وقايةً 
وأرَتهُ شِقْوتهُ الضلوعَ قيودا ‼️
،
فإذا هفا برقُ المنى وهفا لهُ
هاجت دفائنهُ عليه رعودا
،
جسَّمتُهُ صبرًا فلمّا لم يطق
جشّمتهُ التصويب والتصعيدا
،
لو استطيع وقَيتُهُ بطشَ الهوى
ولو استطاع سلا الهوى محمودا

ثم بعد أبيات من شرحه وتفسيره للحب ، وقد أبدع فيه حين قال:

والحبُّ صوتٌ ، فهو أنّةُ نائحٌ
طورًا وآوِنَةً يكون نشيدا
،
يَهبُ البواغمُ ألسُنًا صدّاحةً
فإذا تجنّى أسكتَ الغرّيدا ‼️

عاد بعد ذلك الشاعر ليحكي لنا نزعة المؤازرة ( التبرير والتلطف):

 ما لي أكلّفُ مُهجتي كتْمَ الأسى
إنْ طال عهدُ الجرح صار صديدا
،
ويلذُّ نفسي أن تكونَ شقيةً
ويلذُّ قلبي أن يكون عميدا
،
إن كنتَ تدري ما الغرام فداوني
أو ، لا ، فخلِّ العذلَ والتفنيدا ‼️

،

▪️انطلق بعد هذا التبيان (الضمني) لحالة الصراع النفسي/العاطفي الذي يعيشه ، إلى محبوبته هند ليحكي لها عن حبه :

يا هِندُ قَد أَفنى المَطالُ تَصَبُّري
وَفَنَيتُ حَتّى ما أَخافُ مَزيدا
،
ما هَذِهِ البيضُ الَّتي أَبصَرتُها
في لِمَّتي إِلّا اللَيالي السودا
،
ما شِبتُ مِن كِبَر وَلَكِنَّ الَّذي
حَمَّلتِ نَفسي حَمَّلتُهُ الفودا
،
هَذا الَّذي أَبلى الشَباب وَرَدَّهُ
خَلقا وَجَعَّدَ جَبهَتي تَجعيدا

(كتب الشاعر بعد هذا بيت “يا هند” ، ١٩ بيتًا يعبّر بها عن حبه الشديد لها متغزلا وعاشقا) وقد أحسن بذلك الاتجاه نحوها بعد أن خاض فلسفته الشعرية عن الحب وتفاصيله وما يلاقيه 

▪️النص إذن كان من فقرتين :
فقرة تبيان للصراع الذي يعيشه مع الحب بين نزعتين : نزعة مقاومة ونزعة مؤازرة ، تخللها شرحه لمفهوم الحب
ثم
الفقرة الأخيرة التي وجّه بها الشاعر قصيدته إلى محبوبته .

▪️التحول الذي قاده الشاعر من حكاية ما يعانيه وتفلسفه فيه إلى مخاطبة من يحب ، هو أسلوب شعري بديع وكذلك فهو طريقة إقناع ، وهذا هو المنعطف بشكل الذهاب والإياب في (وعينا) ، التناوب بين نزعتين وهكذا ، ثم إن هناك منعطفات أخرى بالنص وأهمها منعطف الكثافة الشعرية/المجازية والانتقال من المجاز للمباشرة ومثاله :

يا ويح قلبي إنه في جانبي 
وأظنّهُ نائي المزار بعيدا 
،
مستوفزٌ شوقًا إلى أحبابهِ
المرءُ يكره أن يعيش وحيدا 

إن الشعر بالمنعطفات ، ليس فقط بالتخييل والانزياح اللفظي ، بل حتى بالانتقال من شكل لآخر ، ويتضح ذلك بهذا التشخيص  للقلب باستعارة (مستوفز) وكأنه فرد مستقل ،في حين كانت ” المرء يكره أن يعيش وحيدا” حاملة لحكمة وفائدة نفسية مباشرة لو قلناها خارج السياق الشعري بالنص لأصبحت مجرد جملة معرفية نثرية وكلامية ، لكنها جاءت بالنص انعطافا وتغيرا لكثافة الشعرية ، فما سبقها خيال/مجاز ، وهي جاءت واقعا نفسيا معروفا وهذا التحول هو منعطف ، وهو في ذاته أيضًا من منابع الشعر بل لعله هو الشعر ذاته ، 

وكسر الشكل الشعري بتغير كثافة المجاز داخل النص أو الانتقال من غزل لمديح أو غيره من الأغراض هو أيضا انعطاف كما نجده عند كثير من الشعراء بالاتجاه التقليدي للمدرسة العربية القديمة حين يتغزل الشاعر بمطلع نصه ثم يتجه لغرض المديح مثلا  وكذلك حين التحول من شكل عمودي لشكل حر كما في القصائد الممزوجة الشكل التي تجمع بين العمودي والحر ، كما بشعر السياب مثلا 

وتشمل المنعطفات أيضًا ، النص القصصي الذي يجمع بين الخيال والمباشرة (الحوار) ، قصيدة مقتل القمر عند أمل دنقل على سبيل المثال ، فهو بين قصة نعلم اختلاقها لكننا نعيش في أحداثها مراوحين بين القصة والواقع .

المنعطفات المزدوجة 

إن المنعطف هو حركة الذهن مع المعنى بتفاوت  سرعة معالجة النص وتغيّر معدلها ، بفعل ذوات الأشياء المذكورة بالنص وتباينها ، وكثافة المجاز واختلافه ، وحكم الذاكرة المشتركة (ذاكرة الأمة وتاريخها أدبًا وفكرًا + الإنسان القابع بالأعماق ) وتلك الخاصة لكل امرئ منا ، وهو أي المنعطف يأتي أيضًا بين الذات بوعيها بالأنا ووعيها بالآخر الذي تحتاجه ، وهو مفاد ما قاله إيليا أبي ماضي (المرء يكره أن يعيش وحيدا) الذي قادنا لانعطاف مفاجئ أشار به الشاعر نحو الذات وهو تنبيه لها ، فحين أقرأ (المرء يكره أن يعيش وحيدا) أنتبه لهذه الفكرة العميقة التي تبرر لنا هيام الشاعر ، وتوقظ رغبتنا بالانعطاف نحو من نحب ، وعن كراهية الوحدة يقول لنا إريك فروم بكتابه : الخوف من الحرية الذي ألفه عام ١٩٤٢ م ، 

” إن الظروف الفسيولوجية ليست هي الجانب الآمر الوحيد في طبيعة الإنسان ، هناك جانب آخر ضاغط بالمثل وهو جانب ليس قائمًا في العمليات الجسمانية بل هو قائم في صميم الحالة الإنسانية وممارسة الحياة : ألا وهو الحاجة إلى التعلق بالعالم خارج النفس ، الحاجة إلى تجنب الوحدة ، إن الشعور بالوحدة والعزلة تمامًا يفضي إلى الموت”
الخوف من الحرية 📚 ص ٢٤ ترجمة مجاهد عبدالمنعم 

وقد استشهد إيريك فروم بعبارات من رواية بلزاك “معاناة المخترع ” ، ومنها :

” إن الفكرة الأولى للإنسان سواء كان مجذومًا أو سجينا ، خاطئًا أو عاجزًا هي : أن يكون له رفيق لقدَره ، ولكي يُشبع هذا الباعث الذي هو الحياة نفسها ، فإنه يناشد كل قوته وقدرته وطاقته” 

وبناء على ذلك يكون هناك انعطافا مهما وضمنيا في حالة الشعر عند القراءة للمتلقي ، حيث يتجه نحو غيره وخلال قراءته تثار به ذاته وذكرياته وهو في ذلك بين تجربة وتعابير الشاعر وبين ذاته وذكرياته ، يذهب ويعود ويعالج ويشعر بوحدته وأنسه طيلة النص ، وهي انعطافات مزدوجة ومتفارقة ومدركة وغير مدركة.

إن المنعطف تحولات سريعة مفاجئة لكنها تحترم الممكن بالسياق والفهم ، وهي تشعرنا بخطر ضمني ، ومغامرة ما ، وشيء من سد حاجتنا للمعرفة  وهي كذلك مثيرة للتتبع وتحقيق المعرفة العمقية ، التي أشرت لها سلفًا بكونها إدراكا لقدرتي ، فحين أقفز أو فلـأقل حين أنعطف من مستوى لمستوى ومن شكل إلى آخر أعي قدرتي ومهارتي على الانعطاف والفهم ومعالجة البيانات مهما تغيرت درجة وضوحها وأعي كذلك حياتي التي كانت ومازالت تعمل في معالجة النصوص وإدراك تجار الآخرين ، وهذه كله ما يحقق لي لذة الوجود ، وما نعنيه بالمعرفة العُمقيّة .

لماذا يحمل الشروق جمالا لا ينافسه به سوى الغروب ؟

هذا ما تحققه ظاهرة الانعطاف ، فالشعر بالنهاية ليس خارج الكون بل هو محكوم بما فيه ، وليس خارقا للشعور ، بل منسجم بما هو مُعَدٌّ له مسبقا ، فالانعطاف هي حركة الشمس في الأفق إزاء ما نراه من أثر الظلال ، وما يكون من شفق كعاطفة متفجرة ، وما للفجر من رونق البداية والمولد وما للمغرب من هدأة ودلال ، وكل هذا من الممكن أن يكون لأي امرئ منا بمعاني مختلفة وخاصة لكن الإطار العام واحد ، والشعر وإن كان هو الإحساس الجمالي بالنص في دلالاته وإيقاعاته وغنائه إلا أن كل هذا لا يعمل بلا انعطاف في وعينها وحركة تعتمد على القفز بين الذوات والذكريات والأفكار والرغبات بطريقة منظومة بتجانس وانسجام وحداثة .

الانعطاف الضمني والعلني 

إنني لا أخفي حبي للشاعرة لميعة عباس عمارة ، حين أقرأ قصائدها ، أعي ذلك الشعر في المنعطفات ، والتحولات ، وإدارة التدفق.

نقيُّ الصمتِ هذا الليلُ
ساكنةٌ شوارعهُ 
وساكنةٌ على حذرٍ نواياهُ
مخابئهُ معبّأةٌ
قذائفه مهيّأةٌ
وبعض الموت منتظرٌ
ولُغمٌ سوف ينفجرُ
وأشعر أنني لستُ أخشاهُ
لأني في سكون الليلِ
سائرةٌ وإياهُ

قصيدتها هذه ، المبنية تفعيلةً على البحر الوافر ، بها ذلك التوازي بين منعطفين يصبان في منعطف أكبر، منعطف المكان الذي كسب شخصه وصفته من خلال “الليل” و“الشاعرة” والعنوان ”ليل بيروت“ ، ومنعطف الشعر للقارئ بخروجه من وعيه الخاص لوعي النص (حالة الانتقال من لغة الحديث اليومية للغة الشعر ) في بدايته انزياح لكن في حيثياته انعطاف أكبر تشكله معالجة النص ، والمنعطفان انصهرا بمنعطف الغرام ، فالليل الموصوف بالصمت و والجاهزية والألغام والخطر ، هو ذاته تجسيد لحالة الغرام مع الحبيب ذاته الذي تسير معه ، فهو مصدر الأمان لكنه بالعمق هو ذاته الليل فتلك الأوصاف تنطبق على المغرم ، واللغم رغبة ومثل هذا النص نعي جوانبه الانزياحية وتعجبنا معانيه الظاهرة لكن لذتها في اعماقنا من المنعطف الذي حدث بين الليل والمحبوب ، حالة تبادل الهوية والوصف والتلميح من بعيد لحالة الغرام في تبدلاتها .

ماذا أرادت الشاعرة أن تقول بنصها ؟! 

يظهر أنها تخبرنا بواقع بيروت حينها ، وهذه مهمة من مهام الشعر ، فالنص يحكي الخطورة بذلك المكان من خلال ما قالته في نصها عن ذاتها بكونها لا تخشى الموت ، وقد منحنا قالب الشعر احتمال الحب في رداء اللغم الذي سينفجر فمن عادة الشعر الإخفاء والإثارة فإذا كان ظاهر النص ، حكاية خطورة الحرب التي تعيشها بيروت وتلميحه للحب ومكانته ، فإن بعمقه يكمن احتمال خطورة الحب الذي تعيشه الشاعرة ليصبح هو المعنى الأهم.
الشعر عبقرية الاحتمالات وتركيبها ، ولميعة من القلة المثيرة عندي للأسئلة .

المنعطف والمعرفة العُمقية

من القصائد المتميزة بجودتها العالية جدًا بنظري وتكشف عن شكل من أشكال المنعطف في ذواتنا كانت ، قصيدة بشار بن برد  ، ومطلعها : 

ألا لا أرى شيئًا ألذَّ من الوعدِ 
ومن أملٍ فيهِ وإن كان لا يجدي

فقوله “ألا لا أرى” شيئًا ألذّ من،“ حمل اعتزازًا كبيرًا برأيه وذاته ، وقد منحنا انتباهًا أعظم لكونه أعمى ، فقوله “أرى” حرك عواطفنا أيضًا بناءً على معرفتنا لحال الشاعر وقد تناغمت عواطفنا مع إيقاع المعاني نفسيًا ، 

فالشاعر الأعمى وهو يقول : “ألا لا أرى شيئًا”عقلنا وعاطفتنا يتناغمان ويتفاعلان مع فكرة أنه أعمى وأن المعنى للآن يتجه للحديث عن عماه حين تبطئة معالجة النص ، وما أن يقول ويكمل : “ألذ من الوعد”، يتحول الشعور لدينا إلى شاعرية المنعطف ، إذ كانت أذهاننا تتوقع حديثه عن عماه فإذا به يتحدث عن رأيه ، وهذا الانعطاف النفسي للمتلقي هو شاعرية مثيرة تصب في المعرفة العمقية ، أن أعي قدرتي على معالجة الموقف ، القفز من مستوى لآخر في المعنى ، والنص يحمل الكثير من شاعرية التوزيع ، وشاعرية المنعطف ، وهما أساسان في تكوين النص معنويًا/عاطفيًا.

المنعطف الأخير ..

إنني في نهاية القول أشير لإعجابي بالجبال والشواطئ ، وهو الإعجاب الذي لا ينقطع ولا يتوقف عنهما وحين ركزت به لأحلل أسبابه وجدت أن الجذر النفسي العميق هو شاعرية المنعطف والتغيّر المستمرة وتلك الخطورة اليقِظة بهما ، والانتقال من مستوى إلى آخر ، أقصد لحظة التحول التي تأتي دائمًا مكتظة بالحيوية والإثارة ، وهذا ما يفعله الشعر بنا حيث يحشد أعداد كثيفة من المنعطفات في وقت قصير جدا ، ألا وهو وقت قراءة أو سماع النص ومعالجته ، وهذا بدوره يزيد من شعورنا بالمعرفة العُمقية ، قدرتنا على القفز من معنى لآخر ، واستيعابنا الأساليب والتلميحات ، وهذا كله إحساسٌ بالشباب ، ولذة الوجود ، وهو بلا مخاطرة كما حدث للفراشة التي تلذذت بجناحيها ، مسحورة بقدرتها على الطيران وثقتها العالية بالمعرفة العمقية في الذات ، فالقارئ المنصت للشعر ، فراشة لا تحترق .

0 0 votes
تقييم الأعضاء

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض