آراء اجتماعية

ما بين دانييل جوتليب ومجزرة الحولة..

نشر دانييل جوتليب كتاباً جمع فيه رسائله إلى حفيده “سام” ذلك الطفل الذي أصيب بمرض التوحد ، ليشرح له رؤيته للحياة ويصف له الطريق رغم أن دانييل جوتليب نفسه كان يعاني من الشلل الرباعي منذ أكثر من عشرين عاماً ولكن هذا لم يمنعه من الحياة والاستمرار ولقد أيقظت المعاناة فيه روح الانسان التي ما كان لها أن تنطفيء

كتابه بعنوان “رسائل إلى سام ” لا استطيع أن أصف مدى اعجابي بما لقيت فلعل الكتب التي تمر عليها سرعان ما تكون رواسباً تظهر حين الحاجة لها وقد لاتظهر ولكن في وسطنا العربي ومع احداث المجازر التي لم يسلم منها طفل سيقى كتاب دانييل جوتليب عالقاً بذاكرتي ويدفعني نحو ما أتمناه من عدالة..

يقول دانييل الجد المشلول لحفيده المصاب بالتوحد في احدى رسائله ليبرر كيف أنه لم يخف على حفيده حينما جائت امرأة مريضة بالفصام تدعى “نورما” لتحتضنه برحمة وحنان رغم أنها من أكثر المصابين بالمرض خطورة :

“حسناً، لقد علمت، يا سام ، على مدار سنوات أن الشلل الرباعي ليس هو كل ما أنا عليه ، وإنما هو جانب علي أن أتعامل معه.كذلك أنت فليس التوحد هو كل ما أنت عليه وإنما عليك أن تتعامل معه ،فبسبب الأوصاف التي تطلق علينا، قد يخاف بعض الناس من التعامل معنا.وسيلتزم آخرون بحرص زائد عند الحديث معنا أو الوثوق بنا . إنني وأنت نبدو مختلفين ونتصرف على نحو مختلف،نظراً لإصابتي في العمود الفقري،وإصابتك بالتوحد .لكننا نستطيع أيضاً أن نعلم الآخرين مثلما علمتني”نورما”، أنه أياً كان ما يصيب أجسامنا أو عقولنا ،فإن أرواحنا تظل سليمة”..

لو كان بالإمكان لنقلت رسائله جميعها ، فكل رسالة كانت تحمل معنى جميل وحكمة تنبع من روح مملوءة بالخير ، لقد عبّر عما بداخلنا ازاء الأطفال والحياة والعالم..

لم يكن بمخيلتي ولو للحظة واحدة أن أسمع أو أشاهد ما فعله الحقد والغضب والوحشية عند اولئك الذين أعمتهم أطماعهم ليقتلوا عشرات الاطفال في مجزرة الحولة بسوريا ، لقد كان أمراً عظيماً أعجز تمام العجز عن مناقشته ومجرد تصور أن يقوم البشر بذلك ، لقد دمرت السلطة والتراث والمادية قلوب البشر وجعلتهم يقتلون حتى الأطفال الذين لا ذنب لهم دون أي مراعاة لضعفهم ، لبرائتهم ، لانسانيتهم …

العربُ غارقون في وحل خطاياهم وتدفعهم شيطنة ناطقة وأخرى خرساء وفي هذه الحادثة بالذات يكون فعل الفرد والجماعة دلالة على أن خصال الجاهلية مازالت مستمرة بهم ومشرعنة من قبل أدعياء الوعظ الكاذبين ..
إن المعاناة والجراح عميقة لا يمكن تحملها فالمأساة تدفعنا نحو مواجهة ما يجعلهم يبيحون مثل هذه الفعال ، إنهم يحملون تراثاً يبيح في جنباته مثل هذه الأمور فما فائدة الحديث عن التقدم والانسانية وهنالك ألف منبر يؤصل ارتكاب الجرائم باسم المذهب ، باسم الطائفة ، باسم السلطة ، باسم كل تلك الاشياء التي سقطت مع سقووط جثة أول طفل ، أول بريء ، أول انسان لا ذنب له ..

كفانا لعباً وهواناً فلقد وصل بالمتطرفين المجرمين أن يشقوا حناجر الأطفال لإرهاب ذويهم والعالم ، يا لهذا العالم الكسيح ..
يتحدثون به عن الانسانية ولغة المادة هي ما تدفعهم لأفعالٍ لا ترتكبها الحيوانات وقد يصمتون عنها مقابل مصالح هنا وهناك أو باسم الطائفة والانتماء

إن القوة والقدرة عند البشر تبرز خصالهم السيئة والمجرمة والعقل عند المجتمعات البدائية مادة للإطلاع فقط وزخرفة على أواني سلوكياتهم المشينة..

يقول دانييل جوتليب في رسالته لحفيده سام بعنوان :”أعط الرحمة فرصة”..:

“في مملكة الحيوان يعطي الضعف الحيوانات الأخرى الجرأة للأعتداء على الحيوان الضعيف.يحدث ذلك أحياناً في عالم الإنسان لكنني وجدت أنه على العكس،فقد فتح ضعفي لي باب الرحمة من الآخرين.أراها كل يوم عندما يمسك أحدهم الباب من أجلي، أو يصب الكريم في قهوتي، أو يساعدني على ارتداء معطفي.وقد اكتفت أنه عندما يفيض الناس بالكرم والعطف ، يصبحون سعداء”..

لعمري أن مملكة الحيوان أسعد حالاً من اولئك الذين يعيشون ويقتاتون على تراث يبيح لهم قتل الأطفال وتحميهم السلطة المتمثلة بما يُسمى دولة..

بعد قرائتي لكتاب دانييل جوتلييب فهمت لماذا يعيش الغرب بحياة أكثر انسانية مما يعيشه مجتمعات أخرى تزعم أنها الأجمل والأفضل بهذا الوجود ،

سأكتفي فقط بنقل هذا النص الذي نصح به دانييل المقعد المشلول لحفيده الطفل المتوحد لعلها رسالة انسانيةً لكل العرب بعيداً عن لغة الطائفة والنسب :

“سام ، أنا أعرف أنه من طبيعة البشر أن يصارعوا من أجل العدالة الشخصية.وأتمنى أن تكون قادراً على خوضك المعارك من أجل نفسك.لكن الأكثر من ذلك،فإني أريد أن تكون قادراً على تحويل غضبك إلى طاقة لخوض المعارك من أجل العدالة للآخرين.إذا استطعت ذلك،فربما ينشأ حفيدك في عالم أكثر رحمة”

0 0 votes
تقييم الأعضاء

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض