الحب ، قراءة أخرى
هناك مسافة يقطعها حديثنا النفسي قبل أن نعيه ، أو يتمكن هو عن الإبلاغ عن وصوله في جماجمنا ، ومن الممكن أن يقوم أي امرئ منا بالتركيز على وصول كلمة يريدها في ذاته ليتحدث بها نفسيا ، وسيجد أنها تأخذ جزءًا من الزمان قبل ظهورها ، أي مسافة قطعتها ، وسرعة التزمت بها،
هذه المسافة ، تحكي عالمًا ضخمًا من الذكريات المتجمدة ، ومساحات شاسعة من الفضاء المكتظ بالتضاريس والطقوس المجهولة، وإذا كنا نبصر بأعيننا العالم الخارجي ونقطع مسافات طويلة بلمح البصر نظًرا، ونسمع أصواتًا من بعيد ، فإن الحديث النفسي لذواتنا العميقة ، المتجه إلينا شعوريًا ، يشير أيضًا لعالم ضخم كبير بالنسبة لذواتنا يحيط بها ، وأن وعينا بذواتنا بما أن الحديث النفسي جزئية بسيطة منه ، ممزوج بالوحدة والخوف ، كما نشعر بهما حينما نمضي في طريق مهجور لا نعرفه ، إذ يسير أيُّنا فيه وحيدًا ، ممتزجا بالحذر والخشية والتطلع والخيال المتمرد أحيانا حتى يصل ويأمن ، أي أن حديثنا النفسي الوحيد أيضًا لا يأتي نقيًا بل ممزوج بالخوف النابع من تلك المسافة/الطريق التي قطعها ، وهذا الحديث هو دلالة لوعينا الكلي بذواتنا وينطبق على الأخير ما ينطبق على الأول ، حتى في عدمه ، أي عند أولئك الذين وُلِدوا بعطب في حاسة السمع فعجزه عن اللغة/الحديث
إذ إن الوعي/الشعور بذواتنا وما تريد وما ترفض ، يعمل كل ذلك بالطريقة ذاتها ، ويأتي ممزوجًا بالوحدة والخوف ، ولو بدرجات ضئيلة ، بسبب المسافة بين الذات وبين أن أسمعها / أحققها / أعيها.
لحظة ولادة الإنسان ، مرتبطة بالصوت ، يولد فيعلن عن ذاته بصرخات البكاء التي يعي فيها وجوده الأول ، وحين يرضع من ثدي والدته ، فإنه يكمل مسيرة سماعه للصوت ، من خلال الرضاعة ، التي يزامنها الصوت الناشيء عنها ،وهو الصوت الذي يمثل البذرة أو الأساس للحديث النفسي ، وما يشعر بها من حاسة اللمس (الدفء) يصب في نشوء وتنمية منظومة الأنا ، الشعور الأولي بالحياة ، ومع تقدم العمر ينتقل لآليات الشعور بالذات الأخرى ، الكلام والابتسام ، واليد وشؤوونها إلخ
هذا الالتصاق بين الرضيع وثدي أمه ، همش المسافة بينه وبين ذاته وبينه وبين العالم الخارجي، المسافة التي سيدركها مع مرور الزمن واكتمال عقله/ذهنه ، ومن خلال الالتصاق ونفي المسافة نشأ الحب ، فقد شعر من خلال حاسة اللمس بالأنا ، ومثّل الارتواء آلية الارتباط والتركيب التي سيعي من خلالها ذاته بشكل أكبر ، ويتجلى فيها بدايات التعلق والذاكرة فالحب الذي سيأخذ تحولات في التعبير عنه بما يتوافق أيضًا مع الاختلاف الجنسي لاحقا والتباين الذي سيظهر نتيجة أسباب فسيولوجية ، وأخرى لها علاقة بالرابط مع الأم بالمقارنة بين الطفل والطفلة بالفارق في الارتباط والبيئة التي تمثل علاقتهما مع الأم منذ التشأة إلى البلوغ وتجاوز المراهقة
فالذكر سيبتعد قليلا عن الالتصاق والمراعاة المتمثلة سابقًا بتخفيض المسافة للشعور بالذات ، مما يحعله يعي ويواجه ويحقق مفاهيم أقوى في التبحر بالحياة والشعور بها ، في حين أن الأنثى لكونها ملاصقة للأم أو المربية فإنها معتمدة على مشاركة الشعور بالذات وإدراك الحياة معها ومع محيطها الضيق ، مما يجعل فكرة الموت أقرب لأعماقها من الحياة ، وبالطبع فإن هناك نسبة بمثل هذه المظاهر ولا يمكن جعلها قائمة على الجميع ، لأن الارتباط مع الأم قد يختلف من شخص لآخر وأشكال ذلك الارتباط والمحيط والظروف متغيرة لكن ما كتبته يحقق ملاحظة عامة نشهدها لأسباب حيوية/بيولوجية في الفارق بين الجنسين ولأسباب اجتماعية أيضًاذكرت جزءًا منها فيما سبق،
وبعالم الحب ، في سن الرشد والاستقلال ، يهمنا الغرام بصفته مظهرًا مهمًا ومتقدمًا من مطاهر الحب بعد امتزاجه بالدافع الجنسي الذي شكل هويةً للأنا متوسعة في الاستحواذ وتحقيق الذات بالتزامن مع الحيوية والقوة التي تبدو بأعلى درجاتها في سن الشباب ، ومع ذلك فإن الجذر الذي نشأ منه الحب ، (المسافة التي تشقها الذات للوعي بها وتحقيقها من خلال الجسد كما أسلفت) مازالت تقدم الشعور الممزوج بالوحدة والخوف والدافع نحو الآخر (البديل للأم/حاسة اللمس) للتقليل من قلق المسافة.
لنزار قباني شعر جيد بتقمص شعور المرأة والتعبير عنه ومما قاله :
أنا أحبك حاول أن تساعدني
فإن من بدأ المأساة يُنهيها
،
وإن من فتح الأبواب يغلقها
وإن من أشعل النيران يطفيها
،
الحب بشكله الغرامي يفاقم الحاجة للشريك وتحميله مسؤولية الخلاص/النجاة ، وتلك الأبيات تحكي لنا أهم تشكلات الحب وظهوره ، إنه البحث عن المخلّص/البطل بالآخر ، المنقذ من المسافة ووحشة الأنا قبل ظهورها والشعور بها ، أي أننا نمنح الحب معنى حيويًا أكبر ،
فالحب مخاض ولادة جديدة ، للطرفين أو عودة للأصل (الالتصاق) ، لكن الأنثى تبحث فيه عن المنقذ ، لأن تفكيرها بالموت لا ينقطع بسبب النشأة ، ودافع الحب فيها هو دافع الهرب من الذبول/العدم ، ورغبتها بتعزيز قيمتها يدفعها لتصوير معشوقها بصورة البطل الخارق أو المميز الذي سيجابه العالم من أجلها أما الرجل فدافع الحب فيه غالبا هو الرغبة بالقوة والامتلاك، والبحث عن طفولته بدل الاعتماد على جرأته ،
والبحث عنها لدى الطرفين لكنه عند الرجل بمعدل أعلى لأنه قد انقطع عنها وشعوره العاطفي ينتابه التحجر، فيجد بالحب منفذًا لإبصار طفولته الجميلة أيضًا وذاكرة الأنا الأولى ، وعيه بالذات من خلال الالتصاق
وإن ما يدفعه ليكون بطلًا أو يقبل بذلك، هو التصور الذي صنعته المرأة فالعلاقة بيدها وهي التي أعطت هذا الاتجاه الغالب في العلاقات ، البحث عن المخلّص/المنقذ
حتى بالشعر نبصر النرجسية وصناعة الخوارق عند الشاعر بخيالاته الشعرية ليثبت جدارته ببطولة الحب عند محبوبته
والشعر لم يكن إلا منها أساسًا إذ أن بذرة الشعر خُلِقت بغناء ومناغاة الأم لطفلها الرضيع ، وهي مصدر ظاهرة الشعر ، ثم بدأ الرجل باقتناص الألحان وصناعتها وبناء الأغاني ليتذكر أمه وطفولته
وبالحب ، تعرف المرأة من تحب ، حين تدرك أنها بخطر ويعرف الرجل من يحب حين يفكر بالشعر ، أو يحاول كتابته ولهذا تكثر عبارة الشعور بالأمان على لسان العاشقة وعبارات الجمال على لسان العاشق
ونزار كتب الموقف من اتجاه الأنثى ، وتصوراتها وتحويل الحب لاحتراق ونيران ومأساة هو أمر من صلب التفكير الأنثوي لأن شعورها أعلى ولأنها تبحث عن المنقذ ، ولا يليق بحبيبها أن يكون شخصًا تافهًا
وقد يفسر رأيي هذا ظاهرة البطل العاشق بالأفلام الهندية/الشرقية فالأدب بقصصه وكتاباته عن العشق ، صنع شخصية البطل ليناسب بعد ذلك أجواء السينما ، نبصر البطل بأفلام بوليوود وغيرها يمثل جانب الخير والبقاء ومقاومة الموت، وهي طبعًا نظرة تعبر عما هو سائد في الحب من رؤية وزاوية الأنثى
وهذا التصور نجده بشعر سعاد الصباح بقصيدة كن صديقي ، بقولها :
كن صديقي.
ليس في الأمر انتقاص للرجولة
غير أن الرجل الشرقي لايرضى بدورٍ
غير أدوار البطولة
،
***
وبرغم أنها قصدت بأدوار البطولة الاهتمامات الجسدية/الغرائزية عند الرجل وتجاهله لثقافة المرأة إلا أن ورود فكرة البطولة ذاتها بالنص واتهام الرجل ببحثه عنها ، أيًّا كان مقصودها ، يشي بمعاني أعمق في تركيبة المرأة ونظرتها ، أي أنها هي بالأساس ، أقامت هذا التصور الذي انتهجه العاشق والجدير بالذكر أن المسألة تلك ليست شرقية فقط
وأما من حيث الزمان ، فالحب عند المرأة بالطبع نظرة للمستقبل ، لأن الموت عنصر مستقبلي وأما الرجل فالحب نظرة للماضي ، لأن الحياة بشاعريتها تكون أعلى ما تكون بذاكرته لا بمخيلته عن المستقبل وكلتا النظرتين ، يتفاوت الطرفان في ظهورهما عليهما بدرجات واضحة أو تحت مجهر التأمل حسب ظروفهما وهذا شأن أي تقصي لأي شعور وسلوك فلا يمكننا الوصول تماما لجذوره أو فحواه إلا بمراقبة وتأمل شديد في حال الاستقرار وانخفاض الضغوط، وبسهولة وسرعة في حال الاضطراب والظروف القاسية وبالإضافة لذلك علينا الانتباه بأن طبيعة الإنسان قد تكون غير سوية وتخرج عما سبق لتأثير الكيماويات والتلوث بحدود،
وختاما ، الوعي بالذات ، مفاجأة المسافة التي نقطعها في عالم الجسد ، لنشعر بأنفسنا ، كانت مصدر ودافعية الالتصاق لنتعلم وجودنا ، ونكتسب من ذلك الحب الذي كان تعبيرًا عن الأنا الآمنة بالالتصاق (حاسة اللمس) والارتواء والاحتضان ثم التأقلم مع المسافة تلك بمرور الزمن والاستمرار بعاطفة الحب لقطعها بلا خوف بأشكال تناسب نمونا وبلوغنا فاستقلالنا وهرمنا
عصام مطير البلوي
الرسمة الملحقة للفنان الدنماركي Harald Slott-Möller