يقول المعري :
الجِسمُ وَالرُّوحُ مِن قَبلِ اِجتِماعِهِما
كانا وَديعَينِ لا هَمّاً وَلا سَقَماتَفَرُّدُ الشَيءِ خَيرٌ مِن تَأَلُّفِهِ
بِغَيرِهِ وَتَجُرُّ الأُلفَةُ النِقَما
يأتي هذا التوظيف لثنائية الروح والجسد بطريقة بديعة من الشاعر ، إذ يحقق بذلك غرضه في هجاء الحياة ، وهنا علينا أن نبصر الجانب الفكري عند المعري ثم نعرج نحو الثنائية .
خاض المعري معركته ضد الحياة ، في شعره ، وقد ساد فيه نظرته التشاؤمية ، وأبرز امتعاضه من البشر ، وانحطاط أخلاقهم ، بكثير من شعره ،
فيقول مثلا بقصيدته التي خاطب بها الشمس :
أشمسَ نهاري! كم خلَتْ لك حجّةٌ؛
فهل لك من خالٍ، فيُعرَفَ، أو عمّ؟لعمري! لقدماً صاغكِ اللَّهُ قادراً
بغيرِ أبٍ عند القياسِ ولا أمّرَحِمتُكِ يا مَخلوقَةَ الإنسِ إنّما
حياتُكِ موتٌ، والمَطاعمُ كالسّمّفإنْ تُحرَمي عَقلاً سَعِدْتِ لغبطةٍ؛
وإنْ تُرْزَقيهِ، فهوَ مُبتَعَثُ الهَمّولنْ يُجمِعَ النّاسُ، الذينَ رأيتُهم،
على الحمدِ، لكن يُجمِعون على الذّمّ
ومثل هذا كثير في شعره ، ومنه هجاء الدنيا بقصيدته التي مطلعها : "أخوك معذب يا أم دفرِ" وبها يقول :
أرى الدّنيا، وما وُصِفَتْ ببِرٍّ،
متى أغنَتْ فَقيراً أوهَقَتهإذا خُشِيَتْ لشَرٍّ عَجّلَتهُ؛
وإنْ رُجيَتْ لخَيرٍ عوّقَتهحَياةٌ، كالحِبالةِ، ذاتُ مكرٍ؛
ونفسُ المرءِ صَيدٌ أعلَقَتهوأنظُرُ سَهمَها قد أرسَلَتهُ
إليّ بنكبَةٍ، أو فوّقَته
المميز بالبيتين في مطلع التغريدة كيف تخيل الشاعر الروح والجسد في عالمهما (اللطف والسكينة) قبل الامتزاج/التآلف (الحياة) (النقمة)، وهو تصور شعري يكشف لنا عن قدرة الشعر في التمييز بين الهويات والتكوينات ومنحها ذواتا خاصة ، والمعري هنا ثنائي التفكير في الإنسان ، يجدر أن نقول بهذا المنطق أنه أقرب لديكارت من أفلاطون على العكس من قوله الذي شرحناه سابقا .
إن القول بثنائية الروح والجسد ، هو أمر ملحوظ منذ القدم ، وجاءت الفلسفة تناقشه وتتشعب فيه ،
ويهمنا من هذا المدخل تعريف الثنائية ببساطة :
في فلسفة العقل، الثنائية هي النظرية القائلة بأن العقلي والفيزيائي- أو العقل والجسم أو العقل والدماغ - هي، بمعنى ما، أنواع مختلفة جذريا من الأشياء.
(موسوعة ستانفورد للفلسفة)
والاختلاف ملحوظ بالتالي :
للجسد صفات فيزيائية : شكل ، حجم ، لون ، وزن إلخ
ليس للعقل تلك الصفات وبذلك فهو يختلف عن المادة ولا مناص عن كونه جوهر ثاني أو هو كل شيء هذا العالم كما ترى (مثالية بيركلي)
الحالات الفيزيائية من الممكن رصدها حسّيا وبادوات المختبر في حين الحالات الواعية (الألم مثلا) أمر خاص وذاتي لا يعيه سوى صاحبه ونحن سندرك وجوده لديك عبر سلوكك فقط (تعبيرك عنه ، صراخك ، شكواك إلخ)
أسئلة عن الثنائية :(موسوعة ستانفورد) :
1. السؤال الأنطولوجي: ما هي الحالات العقلية وما هي الحالات الفيزيائية؟ هل هي فئة واحدة أو فئة فرعية من الأخرى، بحيث تكون جميع الحالات العقلية جسدية، أو العكس؟ أم أن الحالات العقلية والحالات الجسدية متميزة تماما؟
2. السؤال السببي: هل تؤثر الحالات الجسدية على الحالات العقلية؟ هل تؤثر الحالات العقلية على الحالات الجسدية؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف؟
-تأتي هذه الأسئلة الإضافية-
3. مشكلة الوعي: ما هو الوعي؟ كيف ارتباطه بالدماغ والجسم؟
4. مشكلة القصدية : ما هو القصد؟ كيف يكون ارتباطه بالدماغ والجسم؟
5. مشكلة الذات (أنا) : ما هي الذات؟ كيف يكون ارتباطها بالدماغ والجسم؟
6. مشكلة التجسيد: ما معنى أن يسكن العقل في الجسد؟ ما معنى أن ينتمي الجسم إلى موضوع معين؟
بالطبع الإجابات طويلة ومتضاربة وفلسفية وبها الكثير من الحجج. والجدل .
نعود للمعري ، وما يمكن أن يكون في تفكيره عن الروح والجسد ، بما أنه عالم اللغة البارع ، يأتي مفهوم الروح عند العرب الذي يجيء ببعض القواميس بأن الروح والنفس بمعنى واحد ، لكن هناك رأي بليغ عند العرب ينبغي النظر له ،
يصب بثنائية تفرق بين العقل والروح ، فالروح عند ديكارت وافلاطون هي العقل والشعور (الوعي برمته)
في حين نقل لنا ابن الأنباري في كتابه (الأضداد) :
«الروح:روح الإنسان؛يقال: هي النفس، و يقال:هي غيرها،
فالرّوح التي في الإنسان يكون بها النفس و التقلّب في النوم و التحرّك،و النفس هي التي يقع بها العقل و المشيُ.و قالوا:إذا أنام اللّٰه الرّجُل قبض نفسه،و لم يقبض روحه"
▪️أقول هذا تمييز عظيم في مفهوم العرب للروح ، وهو يجعل الوعي وما يشمل في مفهوم "النفس" على غير ما يراه مثلا ديكارت وأفلاطون عن مفهوم الروح الذي يعنون به الوعي أي النفس فيما شرحه ابن الأنباري .
▪️يتشكل من ذلك أن القول بالثلاثية : "الروح ، العقل ، الجسد" له مكانته المفهومة ويتبقى فجوة بسيطة عن "العقل/النفس" هل هي مستقلة أم هي نتاج الروح والجسد معًا .
▪️بهذا تكون الروح هي "الحياة بصفتها وحدة " ممتزجة وفاعلة بالجسد .
▪️والعقل/النفس/الوعي نتاج لفاعلية حيوية الجسد ، بين الروح والمادة .
▪️يدعم هذا التفسير المبدئي "حشر الأجساد" يوم القيامة الذي أنكره بعض الفلاسفة ويخالفون به شريعة الإسلام وهي القضية التي نال بها ابن سينا حكم التكفير عند الغزالي مثلا (هذه تحتاج البحث الموسّع)
ويدعم كذلك معنى الآخر في ذاكرة كل منا عن أي شخص ، فالصورة جزء مهم من هويته في ذاكرتنا ، ليكون حقيقيا بها على غير تصوراتنا عن شخص في رواية مقروءة مثلا.
للحديث بقية … ومن لديه إضافة أو تعليق فليشاركنا