وافق روجيه غارودي ، بكتابه البنيوية ، ما قاله رومان جاكبسون :
لست أرى كيف يمكن للواحد منا ، متى ما كانت بغيته دراسة اللغات والفنون ، ألا يسعى إلى وضع يده على بنيتها ، وأولئك الذين يتكلمون عن شيء آخر يثرثرون ولا يمارسون العلم "
البنيوية ، ص ٢٥
يهمنا بهذا الرأي ، أن نبرز خطورته على "الجمال" وتجربته ، فالظاهرة الفنية تحديدًا هي خليط شبه متجانس وغير مفهوم العلاقات بين مستويات تركيبية (علمية فيزيائية ليست غالبا بمرأى العين أو الحس) وأخرى ظاهرية (الشيء كما يبدو لنا) بعض ما فيها لا يمكننا فهمه واختزاله .
ثم إن تعظيم "العلم" يقف ضد سياق الجمال ذاته فهو بالنهاية قاتل الرونق والبريق والإثارة ، من الممكن تلخيص ذلك بالتالي:
◾️صرف الذهن -ولو جزئيا- عن الانسجام والتلذذ والشعور بالظاهرة الجمالية ، (تجربة الجمال) إلى التكوين والمركّب والنظرية الذين جميعا يعيقون تدفق التجربة الجمالية عبر التذكّر الواعي للمعرفة والانشغال بتحليل المكونات وإيجاد العلاقات وهذا التفكير العلمي يصرف الشعور الكامل وينشغل بالاختزالات والاختصارات ،
مثلا : أشاهد شجرة مثمرة ، وأسمع غناء العصافير ، وأشم شذى الورد ، والأضواء المنعكسة تثير بي حيوية النظر ، بالإضافة للكثير من الأمور البادية بالمشهد الجميل ، ولكني لو فكّرت (ولو للحظة) بمعادلة تحويل الضوء بكيمياء الورقة الخضراء ، فإني قاطعت التجربة الجمالية بالتذكر واستحضار المعلومة وما يخصها من خطوات ونتائج ، قد يشعرني ذلك بلذة المعرفة لكنها أقل بكثير من لذة الجمال الذي أعيشه وقد غادرته بفعل العلم ذاته .
◾️التأمل للشعور ليس التأمل للفهم والاستنباط ، الأول يصب في حشد طاقة الروح والعقل في جمع ما يمكنني من هذه الثروة الجمالية خلال الزمن الذي أقضيه في لحظتها
مثلا :
( أنا على الشاطئ ، منبهر بزرقة البحر وذهبية الرمل ، والموج الذي يريد أن يقول ولا يقول ،
أمد لكل هذا ذهني ، وأصمت ، وأما ما بي من تدفق للوعي فأوجهه تماما نحو الموج ،
أنا هنا أتأمل للشعور وليس لأني أريد وضع قاعدة . )
أما التأمل للفهم والاستنباط فهو صراع بين ذوات الأشياء وعلاقاتها في ذهني ، ومحاولات مكثفة لتمرير قواعد النحو للرياضيات ، للجغرافيا ، للمعقولات ، للمشهد الذي أراه ، إنه حلب الذاكرة بيد النظر في الظاهرة التي أمامي ، وهذا لا علاقة له بالجمال بل باختزال/اختصار المشهد وإرجاعه لقواعد نظرية نعتقد بأنها هي أسس المشهد ، لكنها حتما بالنسبة للحمال ستظل ناقصة .
◾️الجمال يشترط الجهل والنسيان ، من جهة ، والرغبة وطاقة الحياة/الروح من جهة أخرى .
متى ما وضعنا قاعدة ما واعتقدنا أنها تفسر لنا أي شيء جميل أمامنا ، نكون هنا قد حاولنا اغتيال الجمال عبر إهانته بالمعرفة ، وبالوقت ذاته نكون قد اغتلنا اللذة في أنفسنا لأن المعلوم المجرب ضد الحديث والجديد الذي لم نتخذ موقفًا منه ، وليس في ذاكرتنا من شوائب ومتعلقات سيئة ضده ، وبهذا فنسبة الانبهار به ستكون عالية حال كونه جديدا ، والانبهار. موقف من الجميل وهو حكم نفسي تلقائي .
بخصوص الرغبة وطاقة الحياة فهي دلالة على الروح ونشاطها ، (لا أقول برأي فرويد الجنسي عن طاقة الليبيدو ، لأن الجنس هو أيضًا امتداد لشكل أعمق يمثّل طاقة الحياة الأساسية ، الخلاف هنا بعضه لفظي وبعضه الآخر يخص الاختلاف الوظيفي بين أنسجة الجسم فيما يخص الشعور واللذة) .
◾️ صرامة المأمونية بالعلم.
من الواضح لي أن الخطر مثير شعوري رائع للحياة ، وهو يعمل بذواتنا بأشكال مختلفة ، بعضها عميق قديم أن تدرك منذ صغرك أن هناك عالم خطر بالخارج مما يجعلك أيضًا تعي أهمية والديك ، وبعضها سطحي مثلا ( علي أن غسل يدي مخافة عدوى مصافحة شخص يعطس ) ،
والشعور بالخطر يأتي على هيئة قلق ، كوابيس ، هلع ، شكوك ، سوء ظن ، إلخ
وقد يأتي انجذابا ولذة ، (إذا كان ضئيلا) أو بناء على شخصية وتركيب بعضنا (القيادي) ، (الثائر) ، (المنتقم) وأيضًا وبشكل ملحوظ لي : (محب الجمال)
وهو أيضا بمقادير أقل مرتبط بأي تجربة جمالية عند الجميع ، وما شعورنا بالأمان في التجربة الجمالية سوى راحتنا من أخطار كبرى عبر الانزواء والاحتماء بخطر ضئيل يمثله الغموض ،
لكن العلم هو تدمير للخطر الضروري لبقاء اللذة ، فلا لذة نجدها على سبيل المثال في قولنا ٣+٥ يساوي ثمانية ، إنها ستبقى هكذا دائما مأمونة الجانب وبالتالي لا حيوية بها أي لا إمكانية للجمال .
◾️المعرفة توحي بالاقتناء والشبع والجمال يتطلب لتوهجه الجوع والحرمان أو سرعة ظهورهما بالذات حين الغياب ، أو بقاءهما في حال العشق والهيام .
العلم فعليا يشعرك (لعله يوهمك ) بأنك قد امتلكت الظاهرة باعتقادك فهمها ، وبالتالي فإن شعور الحاجة أقل .
للحديث مزيد في مقالة طويلة مستقبلا