الشخص والإنسان بالشعر
إن الاحتمال هو (حيوية/الروح) فبمجرد أن تتقاسمني نزعات مختلفة ، هو اعتراف (تلقائي) بأنَّ الحياة تجري بي ، وإرادتي هي منازعتي للاحتمالات التي يظهر لي أنّها موقفي من الحدث/العالم الماثل أمامي لكنها احتمالاتُ قبل أن تكون للخارج قد جاءت من وجودي الذي يتنازع تعبيراته وتفضيلاته بعمقي ، فهي تعبّر عن روحي عن حيويتي التي جاءت بطريقةٍ متشابكةٍ متنازعةٍ من الغرائز الجسدية بما فيها غريزة الوعي، وأما الإرادة فإنها محاولتي الناجحة في تبيان ذاتي من خلال أن أختار ، أي أن أمنح أحد الاحتمالات حق التعبير عني وتمثيلي على مسرح ما بعد الجسد ، حق التعبير عن مشاعري التي تعصف ، وعقلي الذي يمثل أوجاعي الميتة ورفضي للتكرار وسعيي لتجارب آمنة ، لتجارب تساعدني على الشعور بمشاعري لكن بلا صراعات أعيها في ذاتي .
الاحتمال هو أن أحب ، وأن أكره على سبيل العاطفة والإدراك مثلًا ، وهو يسبق (إرادتي) بأن أختار حبي حين يمثّل انسجاما مع وعيي بذاتي في تلك اللحظة ، وأن أفضّلَ الكراهيةَ حين أجدها الأسلم لي في تلك الزاوية فالاختبار هنا يمكّن ذاكرتي من إلقاء وجهة نظرها عبر إدراكي وبهذا فالزمن والتاريخ يتمكنان من الولوج لعالم الإنسان أولًا ثم عالم الشخص ثانيًا،
وإنني إذ أحب ربما كنت في الوقت ذاته أكره ، وربما كنت أعبّر عن كراهيتي لذاتي من خلال أن أحب ، أن أحب غيري ، أن أسعى لخارجي ، وإنني إذ أكره ربما كنت في الوقت ذاته أسعى للتعبير عن حبي عن جانب من ذاتي ، أو أسعى لمعرفة جانبٍ أجهله أو أعرفه لكني أود أن أحافظ عليه من التغيير والتلاشي.
إنه من حيث الوجود ، لا يهمني الحب أو الكراهية بقدر ما يهمني هو أنني (أختار) : احتمالا من الاحتمالات ، التي هي بدورها تمثّل حيويتي وشعوري بذاتي ووعيي بها ، ومن ثم أوجهها لخارجي وأمنحها اللغة التي تحد من إيصالي للخارج وتقلل من قدرة العالم الخارجي على قراءتي بلا اختزال/اختصار .
المشاعر ، هي وقود تعريفي بأناي ، أنا أي إرادتي بأن أكون ، أنا أي تدفقي المستمر في الاختيار ، بين احتمالاتي العميقة وتنازعها وتقاسمها ، إنها قادمة من شعوري بمشاعري مرجحةً وعيي بها من خلال اختيارات لا محدودة في عمقي تقوم بها .
إذن كل اختيار هو قبل مولده كان في رحم الاحتمالات التي هي ليست سوى إمكانياتي الحيوية محققة وجودها بالعالم من خلال صناعة تلك الاحتمالات إزاء بقائها وزوالها بالتزامن مع المحيط المقاوم لها ، أو المهيء لإمكانية الوعي بها ، لكن إرادتي كما أسلفت هي الصراع بين كل تلك النزعات (الاحتمالات) ، وهي أيضًا صوت الإنسان العميق ، الإنسان المشترك بيننا نحن البشر .
الذات والوعي بها والإنسان …
إن اللغة كما نعلم هي تواصل في المجتمع وتواصل مع الذات وهي إذ نتصورها منذ البداية تدفعنا للتفكير الفلسفي فحديثي النفسي هو استخدام للغة غيري (والديّ وأسرتي/مجتمعي) ومع ذلك فهي تعمل بتكويني العقلي ، وهي امتداد لأسلافي الذين لا أعرفهم ولتجاربهم ، فهي قواعد إذن مع الآخرين ومنهم أيضًا ، كما أن أي اثنين يلتقيان لهما قواعد بالترحاب وتقاسم المجلس ، فكل تواصل (أي كل خروج عن الذات منها) هو اعتراف بالقواعد وإذعان لها تلقائيا ،
(لاحظوا كيف أن اللغة بكونها تواصل مع الآخر عبر قواعد ، أصبحت بداخلي تواصلا مع ذاتي بقواعد هي بالأساس تمثل خروجًا عليها)
انظروا كيف أن ذاتي هنا عرضة لعملية انقلاب وتنميط يشكلها لأعيها باختزالها !!
ونعود للتواصل الذي قلنا عنه هو تنازل عن الذات وخروج عليها باعترافنا بالقواعد وإذعاننا لها حيث يشكّل المشهد تمثيليا :
التنازل عن حالة البحر باتجاه البر ، فالبحر موج مضطرب في حين تأخذ اليابسة فحوى القواعد الكونية بثبات ، مما يتيح لنا السكنى والتطور على غير حالة البحر ، وهذا يدفعنا للسؤال عن “الإنسان” مقابل “الشخص” ويجعلنا نظن أن إنسانيتنا هي خارجنا وأن الشخص الذي هو الفرد بمجتمعه هو نفسه الإنسان الذي هو الفرد بذاته ، لكن هذا المعنى خاطئ
فالإنسان الذي هو الفرد بذاته ، هو كوني وتشابهه مع البحر لا يعني سوى الغموض ومجانبته التاريخ بقدر كبير بالمقارنة مع اليابسة التي هي معظم التاريخ ، وهذا ما يمثله “الشخص” وما تبينه لنا آفة التدوين الاختزالية حيث أن الشخص هو محور حديثها ، ثم إن الإنسان محاذي للقواعد لذلك يظهر بالفطرة ، نزعة الرحمة مثلا ، التي تتدهور مع تكاثف “الشخص” أي امتزاجه بالمجتمع وانهماكه فيه ، وهذا يفسر لنا لماذا “الشعور بالندم” يظل مسألة ذاتية وينبع بلحظة عودة للذات
والحديث عن الإنسان والشخص كالحديث عن الإسلام بصفته دينا والإسلام بصفته تاريخًا ، فالأول هو الكمال والخلاص الإلهي ، وأما الثاني فهو يجمع السلطة والصراعات وأثر العصور ، وما تفعله الأعراق والأماكن ، وهو محور المزج بين الإمبراطورية وتصرفاتها من جهة والشخص وسلوكياته من جهة أخرى .
الجنون والمجتمع …
في البداية لكي نفهم ثنائية الشخص والإنسان بالشعر علي أن أطرق باب الجنون لإبراز المقصود في قولنا الثنائي السابق ، ولقد علمنا بأنه لا أحد يُجن من القراءة على سبيل المثال ، أي نعم إن المعرفة محفوفة بالشكوك والتساؤلات (وهي شأن تفكيري بحت) لكنها لا تتسبب بالجنون ، إنما مسبب الجنون لأي فرد هو المجتمع ، وهذا ما سيشي لنا بالفارق بين الإنسان والشخص ، اللذين هما أنت على الواقع ، واللذبن أيضًا يتقاسمان النص الشعري
فالإنسان الذي دائمًا أعرّفه بكونه الفرد في ذاته ، هو الخير المطلق مقابل الشخص الذي هو الفرد بالمجتمع ، وكل مجتمع هو (شر) لأنه ضد الإنسان بكينونته الطبيعية ، ولتفسير هذه الفقرة إليكم بعض النقاط :
إنك اثنان ، إنسان وشخص ، الأول يخصك تماما وهو امتداد للطبيعة التي تمثله وهو مشترك الوجود بينك وبين غيرك ،والآخر يخصك ويخص الجماعة/المجتمع ومن الممكن توضيح ذلك بالجسد :
١. الجسد البشري غالبًا متشابه التكوين ، فنرى ذلك الكائن فنعرف أنه بشري ، ونبصر غيره فنقول ذلك “طير” وهكذا فجسد الإنسان هوية مادية له ،،وهذا ليس وحده هوية مشتركة بيننا لأننا لسنا أجسادًا فقط ، هناك معه الإنسان (الذات الطبيعية) وهي بالطريقة ذاتها لو كنا نملك إيصارا من نوع خاص سنعي أن هذه ذات إنسان وتلك ذات طير ،
وهذا الإنسان ليس الروح ولا الوعي ولا العاطفة ولا العقل ولا الجسد فقط ، لأن كل ما سبق يتقاسمه معه الشخص ، بل هو ذات عميقة (نواة) جوهرية لكل ما سبق وقد قام المجتمع (مصدر الشر) بالبناء عليه ، والشخص هو ثياب على الذات الأولى ، لكنها ثياب كالقيود .
٢. المجتمع هو الخارج الذي يعني بجوهره الصراع مع وجودي (صراع مع الإنسان) فهو عمل جماعي وأُطُر وأنا شعور حر ، عالم كبير من المشاعر ، ولأن احتياجاتي الجسدية قد تقتل (ذاتي الطبيعية) فإني أُذعن للخارج من أجل البقاء ، وهذا يدفعني للتشكل والتخلق والألم النفسي ، وهو يصب بالنهاية في حتفي ،
فحين خشيت على وجودي من الجوع الذي أخفقت الطبيعة في القضاء على هذا الاحتياج الجسدي ، اتجهت للإذعان والتشكل مع السلطة والجماعة ، ولكن للأسف خسرت نفسي ونلت حتفي بالنهاية .
٣. يتقاسم الصراع تكويننا ، وهو صراع قد ننتبه له ، بين الإنسان والشخص ، لكن معظم تفكيرنا مبني على أنا والآخر ، أنا والمجتمع ، لكن الأمر ليس في هذه البساطة إن الصراع بالأساس قام بين أنا “إنسانا” وأنا “شخصا” بالإضافة للصراع مع المجتمع ،
وأنا “إنسانا” ليست سوى نزعة الخير مع ملاحظة أن الخير هنا تعني الجمال/التلقائية/الانطلاقية وهي مستويات بدائية يعاد تحويرها عند “أنا” شخصا ، وهذا تفسير التناقض الذي يكشفه الفرد في نفسه ويشعره بالقلق ، حين يفعل شيئا ضد ما يراه في نفسه .
٤. القلق ليس سوى اتجاه شعوري للانتماء ، فالانتماء هو شكل آخر للامتلاك ، إنه امتلاك غير ملموس ، لا يوجد مادة نمتلكها وبالتالي يتشكل الخوف من الانتماء على العكس من الامتلاك الأصل الذي حين أمتلك شيئًا فأنا أشعر به وألمسه بيدي (مثلا سيارة) أما الانتماء فهو امتلاك لكنه ليس مادي ، وهو عكسي كذلك لذلك ما أن أنتمي يبدأ القلق ،
وحين ننزل الانتماء على الإنسان فهو محدود وبرتم مقبول ، فالإنسان ينتمي للطبيعة ، لأبويه ، لعدد محدود من الناس ، والوطن لديه ذكرى ومعاش وطقس وتضريس ، لكن الانتماء عند الشخص أكبر وأكثر من ذلك بكثير حتى على مستوى الوطن ، فالوطن عند الشخص هو مسؤولية وهوية ومراقبة ومساءلة وعدد كبير من الانتماءات الضمنية ، وقس على ذلك .
الإنسان والشخص بالشعر …
في مضمار التكوين الشعري حال النظم ، لابد أن يكون للإنسان القابع بالأعماق نزعته ومقاومته ليظهر على الشخص الذي شكلته المدينة والمجتمع ، فالإنسان المشترك هو نداء الشعر بين البشر ، وهو مصدر الانجذاب للأدب ، وليس التلاعب اللفظي والتصوير الخيالي سوى قشرة سطحية لعملية الانجذاب وتفسيرها ، فالشعر قبل أن يكون انزياحا للغة ، هو تعبير عن ذات عميقة تحاول أن تنطق وفي خضم ذلك تتنازع مع الشخص الذي يديرها من خارجها ، وهو نزاع ليس بين الوعي والللاوعي ، بل هو من بين الشخص الذي يشمل في ذلك وعيه ولا وعيه وبين الإنسان الذي هو امتداد للجنس البشري منذ الأزل وابن الطبيعة والمصدوم بكونه عاجزا عن تجاوز العالم المتخيّل الذي نعيشه وهو أيضًا له من الوعي ظاهرة الشعر والجمال وله من اللاوعي الوجود المتوارث والمكتسب،
فالشخص كما شرحت سابقا هو الفرد بمجتمعه في حين أن الإنسان هو الفرد في ذاته ، أي أنه نواة الوجود ، ولغة الروح ، ولأن الشخص هو عمر فالإنسان هو الدهر وبين هذين القطبين كان الشعر تأسيسا للصراع بين ما هو روحي قديم وبين ما هو شخصي محدث ومعرض للزوال ، وفي هذه الثنائية التي تشكلنا ننظر للشعر من جهتين ، ما هو إنساني وما هو شخصي ، وكيف يكون الشعر حينها بمعنى مختلف عند الإثنين ،
ولعلنا نجد في قصيدة عمر أبي ريشة ما يوضح المسألة .
أنتَ ما أنتَ ، فتونٌ سرمديٌّ
نجتدي من وحيه ما نجتدي
،
ونناجيكَ وفي ألحاننا
ينتهي شوقٌ وشوقٌ يبتدي
،
مطلع قصيدة عمر أبي ريشة “لبنان” الذي قدمه الشاعر جمالًا يناجيه وإنسانًا يمدحه فهل مديح الأماكن/البلدان ، هو غرض سياسي بالشعر ؟ وما الإنسان والشخص بالنص الشعري؟
بهذا العصر الطاغي بفكرة الانتماءات ، ينبغي النظر للقصيدة الشعرية باعتبارها منجزًا سلطويًا حتى لو لم يشأ الشاعر ذلك ، فالشخص الترانزستور الذي هو نصف آدمي ونصف صناعي ( إنسان العصر الحديث) ، من الصعب جدًا أن يعي العالم دون الاستناد على الايدولوجية السياسية ، التي تدفع حتى على مستوى الشعور إزاء الأماكن إلى (حب ما يتوافق مع انتماءاتي السياسية ) وكراهية ما لا يتوافق معها ، والانتماء السياسي بفكرة الوطنية غير ملحوظ لكثافة التوجيه منذ الطفولة ومن ثم فإن الادعاء بأن نظرتنا للآخر / للأماكن لا تتأثر بها هو محض وهم ، أو فلنقل هي شعر بعمقها الذي غالبًا لا نعيه .
نحن لا ننظر للآخرين بريبة حين يخالفوننا بعاداتنا وملامحنا (الجسدية) فقط بل أيضًا بريبة تلقائية حين يحملون جنسية أخرى ، لأن الجنسية اليوم هي تركيز لفكرة الثقافة الاجتماعية والسلطة المحلية وانعدام للمساحة الطبيعية للتجدد ، والجنسية وسم للشخص اليوم ، الشخص الذي هو الفرد داخل المجتمع ، وهي أيضًا وسم للمكان من خلال ضخامة الحدث السياسي وسلطته بعصرنا .
إن لبنان في عين الشاعر القديم ، ليس هو ذاته بعين الشاعر الحديث ، فالأماكن اليوم لها طابع سياسي ، ونحن في هذا الزمان ننظر بمنظور سياسي بفعل الانتماء ، (برمجة النصف الصناعي)
بالطبع الشاعر بحكم عاطفته الزائدة وانتباهه الكبير للجمال ، قد يميل نحو ذاتية للخلاص من أُطر الجماعة/المجتمع وسيفصح عما يتنازعه ، وقد يصل لتحقيق المعنى الشعري الأسمى ( الإنسان وكشف حقيقة العذاب الذي يعيشه بكونه شخصًا أي أنه فرد بمجتمع ) لكنه ليصل لهذا المستوى العرفاني بالشعر ، عليه أن يتحرر من خلال مسيرته بالمجتمع ذاته ، ومن خلال الشعر ، وكلاهما خطران على الشاعر لذلك يظل “الإنسان” قابعًا بالنص لأنه المشترك بين البشر ، ولا يمكن الإفصاح عنه تمامًا لأن هذا ضد “الحضارة” فالشعر هو ابن الطبيعة البار .
يعجبني نص الشاعر لأني بذاتيتي أُنادى من خلال النص ، أُنادى بصفتي إنسانًا لا شخصًا ، ويعجبني نص الشاعر لأني أعيش لحظة إصغاء تعترف بالبقايا التي لم يدمرها المجتمع بعد أو التي مازالت بنصفي البشري لا الصناعي .
لبنان في عين عمر أبي ريشة ، (إذا حذفنا الصناعي والسياسي “نسق النظرة اليوم”) سيكون الشعر حينها تعبيرًا عن رغبة عميقة للذات بأن يكون هكذا أو أنه كان هكذا أو مازال فيما يخص الإنسان فقط هكذا ، أي أن لبنان ليس جميلا في نسق اليوم/الشخص ( في نسق المجتمع والسلطة والدولة وعالمنا المعاصر بثقافته صناعته وطرق تفكيرنا الحديثة) لذا نطقت ذات الشاعر (الإنسان) بما ينبغي أن يكون ، من خلال المفارقة ، إنه مديح المفقود عند الإنسان مثلا مقابل مديح الاستغلال عند الشخص :
أنت ما أنت ؟ فتون سرمدي
نجتدي من وحيه ما نجتدي ،
فلبنان الممدوح بالنص هو ذاته المذموم فيه ، وسيكون ممدوحا تماما بلا تناقض لو كان حديثا لشاعر عاش في وديانه وتلاله وسهوله في زمان الطبيعة ، أي أنه نظر للشق الطبيعي منه حينها، لكن ذلك لم يكن فالشاعر كشف عن نظرته العصرية (الاجتماعية/السياسية) وهو بالمناسبة كان سياسيًا وبالتالي فالصوت الشعري بالنص بذلك الانبهار كان صوت الإنسان الذي سرعان ما سينطفئ في مقاومته للشخص الذي سيظهر بالنص :
وعلى جنبيك فتيانٌ مشى
خلفهم ركبُ الزمان الأمردِ
،
غمسوا المجداف في اليمِّ ففي
كل أفق مئزرٌ من زَبَدِ
،
حملوا الحرف الذي انشقت على
لحنه البكر شفاه الأبدِ
،
فتلفّت فلم تلمح سوى
أمةٍ تهدي ودنيا تهتدي
إنه نص سياسي إذن ، بإطار شعري ، والشعر يجري بمجرى السياسة (لكنه يشير للشخص بنسبة أكبر ويدع للقراء إبصار الإنسان بأعماقه لكن بصعوبة)، وبالتالي فشعريته هي شعرية الانتماء ، وهذا النوع من الشعور قليل الشاعرية في سياق غير سياق الخوف والصدام ، لكثافة الانتماء واعتيادنا عليه (ما هو الجديد بأن أمشي على الرصيف كل يوم ، ما هو الشعري في هذا ؟) لا شيء طبعا لذلك النص هبط حين اتجه لمديح الناس/المجتمع/الأمة ، بعد أن كنا ببدايته نتخيل لبنان الذي هو جنة الأرض بطبيعته ، اتجهنا نحو الشق الاجتماعي (الجنسية ، المجتمع، النظرة السياسية) .
صراع الإنسان والشخص بالنص ….
لتتضح فكرة الإنسان والشخص بالنص ، من الممكن النظر إليها عبر اتجاهين ، اتجاه الشاعر نفسه بالنص وما يكتبه ، واتجاه الشعر نحونا وما يثيرنا .
“أنا يا عصفورة الشجنِ
مثل عينيك بلا وطنِ
،
بي كما بالطفل تسرقهُ
أول الليل يد الوسنِ”
من قصيدة غنتها فيروز ، وقد اتضح أن كاتبها رجل الدين : علي يدر الدين ، الذي منحها للرحباني ،
ويهمنا في النص ، “بلا وطنِ ” إذ يبرز الإنسان القابع بالشعر هذه المرة كاشفًا عن ذاته ضد الشخص الذي يعني انتماءه للجماعة والمكان والسلطة ، وهذا ما ميّز النص ، ومنحه أفقًا يصله الجميع ، فنزعة الشعر الموجودة لدى كل شخص منا إنما هي نداء “الإنسان” المشترك بيننا ، وهذا ما يجعل النصوص تتفاوت بجمالها وفق مقدر “النداء” المقاوم للهوية الشخصية .
علينا النظر أيضًا في كون “الوطن” بهذا العصر يحمل بُعدًا سياسيا لازما له ، وقول رجل الدين (الإسلامي/الشيعي) يكثف الشعور الجمالي بالنص ، (حين معرفته) عبر رغبة الحرية ، فكونه يتجرد من شخصه إنما قد أطاع الكوني وتخلى عن الإيديولجية وهذا النوع من الجمال المنبثق من ذلك بالنسبة له هو اعتراف بالحرية ، لكن الشخص المسيطر عليه بعد النظم منعه من الظهور شاعرًا للنص ، (لو صدق الخبر بأنه فعلا صاحب القصيدة)
إذن النص يحمل بالإضافة للإنسان القابع ونداءه المتفجر : رغبة الحرية ، وهو ما نستشفه حتى بعيدا عن هوية صاحب النص :
أنا لا أرضٌ ولا سكنٌ
أنا عيناك هما سكني
،
هذا النوع من الذوبان بالآخر هو امتثال للمشترك البشري : الإنسان المقموع في أعماقنا ، فالحب بين الاثنين هو رابط المقموعَين ، أما الشخص فهو شكل اجتماعي بُني على المصلحة والنفع والذريعة ، لذلك ما أن تعاظم “المجتمع” وانخراط الفرد به تضاءلت مشاعر الحب المجردة ، ولعلها كذلك تحولت إلى نسق شخصي يمثّل الامتلاك .
حركة اللغة بالنص كانت ضد اللغة اليومية (التي تمثل المجتمع) وهذا معيار آخر للجمال الشعري وإن كانت بعض النصوص الشعرية المنخرطة بالشأن الاجتماعي تحمل جمالا مبنيا على الحدث والموقف الجماعي فإن جمالها كذلك يعتمد على مايشير للكوني والطبيعي وهذا يحتاج تفصيلا للروابط بين الذات والطبيعة .
البندول الذهني للشاعر يدفعه للمراجعات في موقفه ، لكون المقموع لا يصح عليه أن يبقى حيًا بالنص فالشعر تذكار ، وهذا نستشفه من البيت الأخير :
أيُّ وهمٍ أنت عشْتُ به
كُنْتَ في البالِ ولم تَكُنِ
أبيات الشاعر مقاربة لأبيات المتنبي :
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
،
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني
ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
.
لكن هناك فروق بينهما وينبغي تقبّل مثل هذا التناص الشكلي (المفردات) مقابل الاختلاف النوعي بينهما فالشاعر بدر الدين اتجه باغترابه نحو من أيقظت حريته بالحب والهيام ، في حين اتجه المتنبي نحو رغبته بالتحرر من الزمان وفعله ، والمتنبي يطلب الشخص وإن كان الإنسان المقموع في نصه ينبض ، في حين بدر الدين اعترف بإنسانه ولم يتجاوزه .
للحديث تفاصيل أخرى
عصام مطير