قراءاتدروس بالشعر

موسيقى الشكل العمودي

image_pdfimage_print

img_3267يقول أبو الشيص :
“وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي…
متأخَّرٌ عنه ولا مُتَقدَّمُ
،
أجِدُ المَلامة َ في هواكِ لذيذة …
حُبّاً لِذكْرِك فَلْيَلُمْني اللُّوَّمُ
،
أشبهتِ أعدائي فصِرْتُ أحبُّهم …
إذْ كان حظّي منْكِ حظّيَ مِنْهُمُ
،
وأهنتني فأهنتُ نفسي جاهداً …
ما مَن يهون عليك ممَّن يُكْرمُ”
،
الأبيات على البحر الكامل ، والنص يعتبر نتفة شعرية لكونه أقل من سبع أبيات ،
وبالتأمل لمعاني النص فإن
“أحبوا أعداءكم”(رواية عن المسيح)
جاءت عند شاعرنا أبو الشيص وطبقها بأسلوبه الخاص، حيث أحب أعداءه لكونهم يشابهون معشوقته في معاملتها له :
أشبهتِ أعدائي فصرتُ أُحِبُّهمْ..
إذ كان حظي منكِ حظي منهُمُ
،
وما يهمنا بالنص هو الشكل الموسيقي المسمى بالشكل العمودي نظمًا ،
إذ منح الوزن الموسيقي للنص بشكله العمودي ترتيبًا للأحداث بزمنية ساهمت في تلقينا الفكرة وحركت مشاعرنا .
ولو قيل هذا النص نثرًا ، لما حرّك بنا شيئًا لأن التلقي الشاعري يكون بأعلى درجاته لو أتت اللغة بموسيقية تجعلنا نتأمل ونصغي ونتلذذ ،
هذا الجانب النظمي هو الجانب الأهم بالشعر وهو الجانب الذي يفرّق بين الشاعر والناثر وكذلك من حيث الخبرة يفرّق بين شاعر متمكن وآخر مبتدئ.
،
ما الذي فعلته موسيقى الشعر (الوزن/النظم) بالضبط في هذا النص ؟

1. الشكل العمودي ، يعتمد على أبيات حيث كل بيت منها مكون من شطرين ،
وكل شطر منها يأخذ بقراءته أو الاستماع إليه ما يقارب (نفَسًا واحدًا) وبما أن موسيقى الشعر تعتمد على رتم التكرار الثابت بمدى محدد وباشتراطات وزنية تضبط الإيقاع فإن المدى الزمني متوقع وشبه ثابت استماعًا وقراءةً .
هذا يجعل حركة أحداث النص تكون شبه متساوية وموزعة بترتيب ونحن مستعدون لتلقيها ومتوقعين ذلك بالإيقاع الموسيقي ومداه.

2. لكونه على الشكل ذاك فإن فهمنا (عمل أذهاننا) ونحن نقرأ أي حين نتخيل ونعالج الألفاظ وما تعنيه بالجملة والشعور بإيقاع حروفها وموسيقية حركاتها وما يزامن ذلك من بناء نحوي ودلالات وترابط مع بقية الابيات ، يحتاج زمنًا لإتمامه وهو الزمن الذي يناسب بشكل كبير قولنا الشطر ثم البيت وما يفصل بين الشطور من زمن قليل مع أثر الوزن/النظم لضبط كثافة الصور وبالتالي كان الوزن الذهني الذي تفوق به الشعر بقصائده على النثر الفني ونثائره.

3. القافية ليست عملًا صوتيًا بتكراره نمنح أنفسنا لذة النغمة/الإيقاع الأخير فقط بل أيضًا هي إشارة للتوقف وإعادة النظر بما سبق ثم الانطلاق لبدء بيت آخر ، وهذا الانقطاع الجبري يوفر زمنًا للذهن لإتمام ما سبق سماعه .

4. الشكل العمودي بتوزيعه هذا ، منح التنوع بالنحو وحركته إيقاعًا عميقًا ، ونلاحظ بالشعر أن حركة النحو فعالة لكونها تتجه نحو القافية ، وبسببها يكون غالب النص متجهًا لتنويع البناء ليصل إليها بشكل جديد مع إمكانية توزيع التكرار بأبيات متفرقة ، وبسبب الوزن ومداه الثابت فإن ملاحظة حركة النحو أعلى بمراحل من إدراكها بالنثر .
5. لأن شطر البيت بزمن ومدى محدد ، وتلقينا له كذلك ، فإن شعورنا بتقارب الألفاظ وتكرار بعض الحروف له أثره الشعوري العالي .
(أحبهم،حظي،حظك)

6. لأننا نقرأ ونتلقى هكذا بتوقيت وزمنية ونهايات جبرية (القوافي) فنحن نترقب ونهتم لذلك تكون المفارقات والمفاجئات مؤثرة بنا فنحن مستعدون بسبب موسيقية الشعر (الوزن) وبمزاج يشابه التنويم المغناطيسي في الانفلات من بقية العالم ، وحين
قال أبو الشيص : فأهنتِني فأهنتُ نفسي صاغرًا ، فتفاعلنا سيكون بأعلاه لأن الشكل العمودي قد جهزنا بأبيات سبقته لنترقب ونركز .
،
هذه جوانب سريعة في تركيب الشكل الموسيقي العمودي بالشعر وأثره الوجداني الشعوري ،
وكما أسلفت لو قيلت أفكار هذا النص نثرًا لما كان لها قيمة تذكر مقارنة بأن تكون في قالب موسيقي نبنيه من خلال ((النظم)) ،
لكن النثر في النصوص القصيرة جدًا يتفوق لغياب الشعور بالموسيقا وهذا ما سنشرحه مستقبلا .

عصام مطير البلوي

الرسمة الملحقة للفنان الرسام الأمريكي دانيال غاربر 1880-1958م

image_pdfimage_print
0 0 votes
تقييم الأعضاء

🕶 كُن معنا!

ستصلك منشوراتنا كل أسبوع عن الجديد
والمثير بعالم الشعر والفلسفة

لن نرسل لك البريد العشوائي أو شارك عنوان بريدك الإلكتروني مطلقًا.
اقرأ المزيد في سياسة الخصوصية الخاصة بنا.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض